من المنصف أن نذكر أحيانا فترة زمنية كان فيها للإنسان قيمة عالية و أهمية جعلته الكائن الأهم و المفضل و العزيز عند الله، و بذلك استحق شرف الخلافة على هذه الأرض. و خير فترة زمنية يمكن الحديث عنها، هي تلك التي نسميها خير القرون أو فترة النبوة، و التي لاقت بعد الفتح نجاحا اتسع الآفاق و خلده التاريخ إلى يومنا هذا. و قد بقيت هذه الصورة تتكرر مع القرون التي تلت بعدها بنسب متفاوتة دون أن تبلغ الكمالية التي طالت زمن النبي صلى الله عليه و سلم.
![]() |
المدينة التي لا نعيش فيها. خواطر |
و لقد ارتأيت أن أضع صورة تقريبية حقيقية لذلك العصر. وأزين به مقالتي و أطرحها موضوعا يثري النقاش و تحديا في نفس الوقت لأي عصر يستطيع أن يبلغ من الرقي و العدل و الازدهار ما بلغه أصحاب تلك الفترة الزمنية المباركة، و التاريخ خير شاهد على ذلك.
* في رحاب المدينة التي لا نعيشها
الأفضلية من المنظور الإسلامي:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. سورة النساء الآية 34
- حتما ستجد في تلك المدينة التي لا نعيش فبها أن الحب شعور حقيقي، و أنه لا يتطلب بالضرورة جسدا و شهوات. و حيث المجتمع بلغ من الوعي ذروته و كان الإسلام الحقيقي مظلته، فإنك لن تجد فيه ذكرا ذو قيمة عالية وهمية و له الأحقية فيما ليس لأخته أو لأي ابنة في نفس سنه، فقرآنهم فيه الناس سواسية و الأحكام متساوية.
و في هذا يشير القرآن الكريم أن الأفضلية في اصطفاء الانبياء منهم و الولاية و ما إلى ذلك ثم تكليف الرجل على صيانة الأنثى التي هي في الأصل من تكوينه. فالإنفاق و الحماية و القوامة جاءت للصون لا للتعالي.
فلن تجد بكل
بساطة تلك الازدواجية. لن تجد شابا يفتخر بذكورته و يعتبرها جوازا و تأشيرة ليمارس
بها ما يشاء و يذهب حيث يشاء بحجة اكتساب التجربة، كما لن تجد فتاة تخجل من أن تعبر عن
مشاعرها في الرفض أو القبول أو تشتكي ما يعتريها من مشاعر تجاه الجنس الآخر.
فالفطرة و الانجذاب مسألة مفروغ منها و حقيقية. و التعليمات السمحة ما أتت إلا
لتنظيمها لا لتوزيعها.
الأخلاق مسألة مركزية:
- في تلك المدينة المتحضرة، لن تجد أما تعاتب
ابنها ليكمل دراسته و تغفل عن سوء أخلاقه ففي النهاية المهم عندها أن يكون ابنها رجلا
مستقلا ذو شخصية و قوامة مالية عالية، أما الذنوب و مراقبة الله و استغلال البنات
فهي أشياء يمكن التساهل معها. و هي نفس الأم التي إن وجدت ذلك في ابنتها ألبستها
جلباب العار و أوقفتها عن الدراسة ففي النهاية مصيرها ربة بيت في عش الزوجية.
فليست الدراسة مهمة بقدر أهمية سمعة العائلة. و أن شعورها ذاك لا يحتاج للتوضيح و
التنظيم حتى يصرف بطريقة طبيعية.
- نعم في تلك المدينة، لن تجد الكبت متضخما و
سببا في السلوكات المشينة و الشاذة، بل ستجده غالبا عارضا يدعو للسؤال و الفهم و يجد له مخرجا في التقبل و إخضاعه للسوية.
لن تجد الأعراف و التقاليد خطا أحمرا مستحيل
التجاوز، بل ستجد تجاوزات مختلفة و تجارب تحت طائلة المسؤولية. و تلك هي المسطرة
المربية.
و لأنهم و برغم اختلاف ألوانهم و أجسادهم و
أذواقهم، فإن دينهم واحد و نبيهم واحد، هو من يسن لهم ما يفعلون و يشير عليهم إذا
أخفقوا كيف يصلحوا ما ضاع منهم و يستمروا في تحسين أنفسهم دون أن يروا في ذلك
انتقاصا لحريتهم و اختياراتهم.
* العدل أساس الملك
إقامة الحدود صميم الحماية للمجتمع
- في تلك المدينة، ستعرف المعنى الحقيقي للتصالح مع النفس و الثمرة الحقيقية للحب و الموالاة و العمل. فكل المصطلحات عندهم واضحة و بارزة و متمثلة و متجسدة في سلوكياتهم. ستجد الغني منهم يصادق الفقير لانه يعتقد أن أخلاقه قد يستفيد منها. و لا يرى نفسه متعاليا عليه بل يرى أنه مختبر فيه، هل سيحسن إليه. و ستجد كبير القوم لا يغفر لابنه خطيئته التي تجاوز فيها الحد و تمادى فآذى المجتمع الذي يحميه فيقيم عليه الحد حقا لله و تطهيرا له و رحمة به و عبرة لمن يعتبر.
حتى تقل الجرائم و تعتدل سلوكيات الناس بالترغيب و الترهيب.
و لأن رحمة الله واسعة، فستجد الاحتكام لكتابه و سنة نبيه ما أتت إلا لرفعة شان
هذا الإنسان بين الأمم فحريته ابتدأت منذ أعطى أمره لله فانساق لعبوديته طوعا و
حبا لا غصبا و كراهية. إذ هو لا يجد في أوامره تضييقا أو نبذا و إنما يراها منهجا
و مسلكا ناجعا مقارنة مع باقي الشرائع المتجددة. و من رحمة الله كذلك، أن تجد في
كل خطيئة فرصة للعودة و التصحيح و الأوبة مما يبقي حياة القلب دائما فيكفي المذنب
نفسه العقوبة إذا صدق في توبته.
- ستنقشع لك كل الخرافات التي سمعتها من قبل و
ستعلم أن دينهم ليس دين جمود و تبعية عشوائية. فالعلم عندهم قول و عمل. و التعاون
و التآزر مسألة مركزية لأن الإحساس يذوب في إحساس الجماعة لأنهم على سفينة واحدة.
طبعا ستلمح بالصدفة أنماطا و أصنافا ممن
يقولون ما لا يفعلون و ممن يعدون و لا ينفذون و لكن، ستحصيهم فتجدهم اقلية. لن
تجدهم في الصدارة أو لا يتولون شؤون العامة من الناس. لأنه مستحيل أن تنجح أمة و
تزدهر و قد تخلت عن الجهد و المصداقية.
تحية و إجلال
و أخيرا و ليس آخرا إن زرت تلك المدينة يوما و لو في الأحلام، فأبلغهم منا السلام و قل لهم طوبى لكم و قد سعدتم بما رضيتم فأرضاكم الله و سيلقاكم جنة و سرورا.